سورة الفتح - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفتح)


        


{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} من أموال يهود خيبر، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، فاقتسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}.
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة، {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يعني خيبر، {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصد خيبر وحاصر أهلها همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة، فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم، وقيل: كف أيدي الناس عنكم يعني أهل مكة بالصلح، {وَلِتَكُونَ} كفهم وسلامتكم، {آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} على صدقك ويعلموا أن الله هو المتولي حياطتهم وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم، {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} يثبتكم على الإسلام ويزيدكم بصيرة ويقينًا بصلح الحديبية، وفتح خيبر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم ثم خرج في بقية المحرم سنة سبع إلى خيبر.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا غَزَا بِنَا قومًا لم يكن يغير بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانًا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم قال: فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانًا ركب وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم النبي صلى الله عليه وسلم: قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد- والله- محمد والخميس، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الله أكبر، الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، أخبرنا أبو علي الحنفي عبيدالله بن عبد المجيد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إياس بن سلمة، حدثني أبي قال: خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم:
تاللهِ لولا اللهُ ما اهتدينا *** ولا تصدَّقنا ولا صَلَّينا
ونحنُ عن فَضْلِكَ ما استَغْنَيْنَا *** فثبّتِ الأقدامَ إنْ لاقينا
وأنزلَنْ سكينةً علينا ***
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من هذا؟» فقال: أنا عامر، قال: «غفر لك ربك»، قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد، قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له: يا نبي الله لولا متعتنا بعامر، قال: فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:
قد عَلِمَتْ خَيْبَرُ أنِّي مَرْحَبُ *** شَاكي السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرِّبُ
إذَا الحروبُ أَقْبَلتْ تَلَهَّبُ ***
قال: وبرز له عمي عامر، فقال:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرٌ *** شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ مُغَامِرٌ
قال: فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر وذهب عامر يسفل له، فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله، وكانت فيها نفسه. قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: بَطَل عملُ عامر قتل نفسه، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله بطل عمل عامر قتل نفسه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال ذلك»؟ قلت: ناس من أصحابك، قال: «كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين»، ثم أرسلني إلى عليٍّ رضي الله عنه- وهو أرمد- فقال: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، قال: فأتيت عليًّا رضي الله عنه فجئت به أقوده وهو أرمد، حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في عينيه فبرأ، وأعطاه الراية، وخرج مرحب فقال:
قد عَلِمَتْ خيبرُ أني مَرْحَبُ *** شاكي السلاحِ بطلٌ مجرّبُ
إذا الحروب أقبلت تَلَهَّبُ ***
فقال عليٌّ رضي الله عنه:
أنا الذي سَمَّتني أُمّي حَيْدَرَهْ *** كليثِ غاباتٍ كريهِ المَنْظَرَهْ
أُوْفِيْهم بالصَّاع كَيْلَ السَّنْدَرَهْ ***
قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه.
وروى حديث خيبر جماعة: سهل بن سعد، وأنس، وأبو هريرة، يزيدون وينقصون، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهض فقاتل قتالا شديدًا، ثم رجع فأخذها عمر رضي الله عنه فقاتل قتالا شديدًا، هو أشد من القتال الأول، ثم رجع، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «لأعطين الراية غدًا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه»، فدعا علي بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال: «امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك»، فأتى مدينة خيبر، فخرج مرحب، صاحب الحصن، وعليه مغفر وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز، فبرز إليه عليٌّ فضربه فَقَدَّ الحجر والمغفر وفلق رأسه حتى أخذ السيف في الأضراس، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر، يرتجز فخرج إليه الزبير بن العوام، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: أيقتل ابني يا رسول الله؟ قال: «بل ابنك يقتله إن شاء الله»، ثم التقيا فقتله الزبير، ثم لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح الحصون، ويقتل المقاتلة ويسبي الذرية، ويحوز الأموال.
قال محمد بن إسحاق: وكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن سلمة، ألقت عليه اليهود حجرًا فقتله، ثم فتح العموص، حصن ابن أبي الحقيق، فأصاب منها سبايا، منهم صفية بنت حيي بن أخطب، جاء بلال بها وبأخرى معها، فمر بهما على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعزبوا عني هذه الشيطانة»، وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطفاها لنفسه، وقال رسول الله لبلال، لما رأى من تلك اليهودية ما رأى: «أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمرُّ بامرأتين على قتلى رجالهما»، وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمرًا وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها، فقال: ما هذا إلا أنك تتمنين مَلِكَ الحجاز محمدًا، فلطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وبها أثر منها فسألها ما هو؟ فأخبرته هذا الخبر، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجها كنانة بن الربيع، وكان عنده كنز بني النضير فسأله، فجحده أن يكون يعلم مكانه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من اليهود فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد رأيت كنانة يطوف بهذه الخربة كل غداة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك أنقتلك؟ قال: نعم؟ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله ما بقي فأبى أن يؤديه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر، فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس، فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم، وركب أبو طلحة، وأنا رديف أبي طلحة، فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل القرية قال: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين»، قالها ثلاثًا، وخرج القوم إلى أعمالهم، فقالوا: محمد قال عبد العزيز، وقال بعض أصحابنا: والخميس يعني: الجيش قال: فأصبناها عنوة، فجمع السبي فجاء دحية فقال: يا نبي الله أعطني جارية من السبي، قال: اذهب فخذ جارية فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير، لا تصلح إلا لك، قال: «ادعوه بها»، فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذ جارية من السبي غيرها»، قال: فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها، فقال له ثابت: يا أبا حمزة ما أصدقها؟ قال: نفسها، أعتقها وتزوجها، حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم، فأهدتها له من الليل، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروسًا، فقال: من كان عنده شيء فليجىء به، وبسط نطعًا فجعل الرجل يجيء بالتمر وجعل الآخر يجيء بالسمن، قال: وأحسبه قد ذكر السويق، قال: فحاسوا حيسًا فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد الشيباني قال: سمعت ابن أبي أوفى يقول: أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها، فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم اكفئوا القدور ولا تطعموا من لحوم الحمر شيئًا، قال عبد الله: فقلنا إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم لأنها لم تخمس، وقال آخرون: حرمها البتة، وسألت سعيد بن جبير فقال: حرمها البتة.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي، أخبرنا خالد بن الحارث، حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك، قال: «ما كان الله ليسلطكِ على ذلك، أو قال: عليَّ»، قال: قالوا ألا نقتلها؟ قال: لا قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن إسماعيل: قال يونس، عن الزهري قال عروة، قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: «يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن بشار، أخبرنا حرمي، أخبرنا شعبة قال: أخبرني عمارة، عن عكرمة، عن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أحمد بن المقدام، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، أخبرني نافع، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل خيبر أراد أن يخرج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين، فسأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتركهم على أن يكفوا العمل ولهم نصف الثمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نقرُّكم على ذلك ما شئنا». فأقروا حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء.
قال محمد بن إسحاق: فلما سمع أهل فدك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم ويحقن لهم دماءهم، ويخلوا له الأموال، ففعل. ثم إن أهل خيبر سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم الأموال على النصف، ففعل على أنا إذا شئنا أخرجناكم، فصالحه أهل فدك على مثل ذلك، فكانت خيبر للمسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.
فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصليَّة، وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها السم، وسممت سائر الشاة، ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تناول الذراع فأخذها فلاك منها مضغة فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، وقد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها، ثم قال: «إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم»، ثم دعا بها فاعترفت، فقال: «ما حملك على ذلك؟» قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان ملكًا استرحت منه، وإن كان نبيًا فسيخبر، فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل. قال: ودخلت أم بشر بن البراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعوده في مرضه الذي توفي فيه، فقال: «يا أم بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري»، وكان المسلمون يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا مع ما أكرمه الله من النبوة.


قوله عز وجل: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} أي وعدكم الله فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها، {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} حتى يفتحها لكم كأنه حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى تأخذوها، قال ابن عباس: علم الله أنه يفتحها لكم.
واختلفوا فيها، فقال ابن عباس، والحسن ومقاتل: هي فارس والروم، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم، بل كانوا خولا لهم حتى قدروا عليها بالإسلام.
وقال الضحاك وابن زيد: هي خيبر، وعدها الله نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصيبها، ولم يكونوا يرجونها.
وقال قتادة: هي مكة. وقال عكرمة: حنين. وقال مجاهد: ما فتحوا حتى اليوم.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}.
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: أسد، وغطفان، وأهل خيبر، {لَوَلَّوُا الأدْبَارَ} لانهزموا، {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}.
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} أي كسنة الله في نصر أوليائه وقهر أعدائه، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا}.
قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} قرأ أبو عمرو بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء، واختلفوا في هؤلاء:
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا عمرو بن محمد الناقد، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم: أن ثمانين رجلا من أهل مكة، هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غدر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سلمًا فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم}.
قال عبد الله بن مغفل المزني: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره، وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح، فخرج علينا ثلاثون شابًا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جئتم في عهد؟ أو هل جعل لكم أحد أمانًا؟» فقالوا: اللهم لا فخلَّى سبيلهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.


قوله عز وجل: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية. روى الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، يريدون زيارة البيت، لا يريد قتالا وساق معه سبعين بدنة، والناس سبعمائة رجل، وكانت كل بدنة عن عشرة نفر، فلما أتى ذا الحليفة قَلَّدَ الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عينًا له من خزاعة يخبره عن قريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط قريبًا من عُسْفان، أتاه عينه الخزاعي وقال: إن قريشًا قد جمعوا لك جموعًا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أشيروا عليّ أيها الناس، أترون أن أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين، وإن نجوا تكن عنقًا قطعها الله؟ أو ترون أن نؤم البيت فمن صَدَّنا عنه قاتلناه؟».
فقال أبو بكر: يا رسول الله إنما خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حربًا، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه.
فقال: «امضوا على اسم الله»، فنفروا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين»، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرًا لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حلٍّ حلٍّ، فألحت، فقالوا: «خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل»، ثم قال: «والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياه»، ثم زجرها فوثبت.
قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضًا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، وشكا الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم العطش، فنزع سهمًا من كنانته وأعطاه رجلا من أصحابه يقال له ناجية بن عمير، وهو سائق بدن النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل في البئر فغرزه في جوفه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جُمُّوا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره».
فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشًا، قال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، قال: فقال سفاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول.
قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته، قالوا: ائته. فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوًا من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فإني والله لأرى وجوهًا وأشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك.
فقال له أبو بكر الصديق: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟.
فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال: أَخِّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غُدَر ألست أسعى في غدرتك.
وكان المغيرة صحب قومًا في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء».
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فوالله- ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له، فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظرة تعظيمًا له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له»، فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت؟ فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظامًا لما رأى فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صد الهدي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، فقالوا له: اجلس إنما أنت رجل أعرابي لا علم لك، فغضب الحليس عند ذلك، فقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظمًا له، والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به.
فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا مكرز وهو رجل فاجر، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، وقال عكرمة: فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: قد سهل لكم من أمركم.
قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات نكتب بيننا وبينكم كتابًا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب.
فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: «اكتب باسمك اللهم، ثم قال: اكتب: هذا ما قضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم».
فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب يا علي: محمد بن عبد الله.
قال الزهري: وذلك لقوله: لا يسألون خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وعلى أن تخلوا بيننا وبين البيت، فنطوف به، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب إنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل- وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا، فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟.
وروى أبو إسحاق عن البراء قصة الصلح وفيه قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئًا ولكن أنت محمد بن عبد الله، قال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله، ثم قال لعليّ رضي الله عنه: امح رسول الله، قال: لا والله لا أمحوك أبدًا، قال: «فأرنيه»، فأراه إياه، فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، وفي روايته: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن أن يكتب، فكتب: هذا ما قضى محمد بن عبد الله.
قال البراء: صالح على ثلاثة أشياء: على أن من أتاه من المشركين رده إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلى أن يدخلها من قابل، ويقيم بها ثلاثة أيام، ولا يدخلها إلا بِجُلُبّانِ السلاح السيف والقوس ونحوه.
وروى ثابت عن أنس: أن قريشًا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطوا: أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: «نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا».
رجعنا إلى حديث الزهري قال: فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو، يرسف في قيوده قد انفلت وخرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ، فقال النبي: إنا لم نقض الكتاب بعد، قال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فَأَجِرْه لي، فقال: فما أنا بمجيره لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، ثم جعل سهيل يجره ليرده إلى قريش، قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلمًا ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذب عذابًا شديدًا في الله.
وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا جندل احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقدًا وصلحًا، وإنا لا نغدر، فوثب عمر يمشي إلى جنب أبي جندل، ويقول: اصبر فإنما هم المشركون ودم أحدهم كدم كلب، ويدني قائم السيف منه، قال عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه فضن الرجل بأبيه.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح، لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ذلك دخل الناسَ أمرٌ عظيمٌ حتى كادوا يهلكون، وزادهم أمر أبي جندل شرًّا إلى ما بهم.
قال عمر: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ.
قال الزهري في حديثه عن عروة عن مروان والمسور، ورواه أبو وائل عن سهل بن حنيف قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألست نبي الله حقًا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدَّنِيَّةَ في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقًا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله ليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.
قال: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا، ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام رجل منهم، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم أن يقتل بعضًا غمّا.
قال ابن عمر وابن عباس: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: يرحم الله المحلقين، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: والمقصرين، قالوا: يا رسول الله فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: لأنهم لم يشكوا. قال ابن عمر: وذلك لأنه تربص قوم وقالوا لعلنا نطوف بالبيت.
قال ابن عباس: وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ المشركين بذلك.
وقال الزهري في حديثه: ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات}، حتى بلغ {بعصم الكوافر} [الممتحنة- 10]، فطلق عمر رضي الله عنه يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية، قال: فنهاهم أن يردوا النساء وأمر برد الصداق.
قال: ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير عتبة بن أسيد، رجل من قريش وهو مسلم، وكان ممن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثا في طلبه رجلا من بني عامر بن لؤي، ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالا العهد الذي جعلت لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصح في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، ثم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيدًا، فاستله الآخر، فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت به، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأخذوه وعلاه به فضربه حتى برد، وفرَّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرًا، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ويلك مالك؟ قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحًا السيف حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل أمه مِسْعَر حرب، لو كان معه أحد، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، وبلغ المسلمين الذين كانوا حبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد، فخرج عصابة منهم إليه، وانفلت أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، حتى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلا فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقدموا عليه بالمدينة، فأنزل الله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا} حتى بلغ {حمية الجاهلية}، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينه وبين البيت.
قال الله عز وجل: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني كفار مكة، {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أن تطوفوا به، {وَالْهَدْيَ} أي: وصدوا الهدي، وهي البدن التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت سبعين بدنة، {مَعْكُوفًا} محبوسًا، يقال: عكفته عكفا إذا حبسته وعكوفًا لازم، كما يقال: رجع رجعًا ورجوعًا، {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} منحره وحيث يحل نحره يعني الحرم، {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} يعني المستضعفين بمكة، {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} لم تعرفوهم، {أَنْ تَطَأوهم} بالقتل وتوقعوا بهم، {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال ابن زيد: معرة إثم. وقال ابن إسحاق: غرم الدية.
وقيل: الكفارة لأن الله عز وجل أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدية، فقال: {فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء- 92].
وقيل: هو أن المشركين يعيبونكم ويقولون قتلوا أهل دينهم، والمعرة: المشقة، يقول: لولا أن تطؤوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم فيلزمكم بهم كفارة أو يلحقكم سبة. وجواب لولا محذوف، تقديره: لأذن لكم في دخولها ولكنه حال بينكم وبين ذلك.
{لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} فاللام في {ليدخل} متعلق بمحذوف دل عليه معنى الكلام، يعني: حال بينكم وبين ذلك ليدخل الله في رحمته في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح قبل أن تدخلوها، {لَوْ تَزَيَّلُوا} لو تميزوا يعني المؤمنين من الكفار، {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} بالسبي والقتل بأيديكم.
وقال بعض أهل العلم: {لعذبنا} جواب لكلامين أحدهما: {لولا رجال}، والثاني: {لو تزيلوا}، ثم قال: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} يعني المؤمنين والمؤمنات.
وقوله: {فِي رَحْمَتِهِ} أي جنته. وقال قتادة في هذه الآية: إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5